إنّ من أبرز سمات الفكر المتحضّر شموليته ، بحيث لا يضيق ذرعاً بجانب ما وإن أبدع في سائر الجوانب الحياتية الأخرى ، ومرونته بامكان الاستفادة منه في علاج ما يستجد من مشاكل الحياة المعاصرة ، وانسجامه مع طموحات الإنسان وتلبية حاجاته في كلّ عصر وجيل . وسلامة مبادئه من العصبية والتطرف على حساب جنس أو لون ، مع قوّته في ذاته بسلامة حجته ، ومتانة دليله ، ووضوح منطقه ، ومن الواضح ان فكراً عالمياً بهذه المواصفات لا يمكن أن يكون من نتاج عقلية بشرية ، وإن بلغت من السموّ والارتقاء إلى أقصى ما يمكن أن تبلغه العقول من درجات ، كما لا يمكن العثور عليه حتى في نطاق الأديان السماوية التي جاءت لقوم دون آخرين لتعالج مشاكل اُمة معينة في مرحلة من مراحل عتوّها وجبروتها ، ولاشكّ أنّ الدين الوحيد الذي لم يحصر خطابه باُمة معينة ، وإنما خاطب الناس كافة هو الإسلام الذي جاء متمّماً لدعوة الأنبياء جميعاً ، وبكماله وتمامه انقطع وحي السماء ، وهذا يعني تمامية فكره وانسجامه مع الحياة في كلّ زمان ومكان ، إذ لا يعقل أن يرتضيه الله ديناً لجميع العباد ويتركه ناقصاً ليتمّمه البشر ! وقد نبّه القرآن الكريم على هذه الحقيقة بآيات كثيرة ، كما طفحت بها السنّة النبوية ، وفاضت على جنبات مدرسة أهل البيت عليهم السلام .
ومن مؤشرات عظمة هذا الدين أنه لم ينتشر عن طريق القوّة كما يدّعيه خصومه ، كما لم تكن آيات القتال في دستوره وسيلة من وسائل الاكراه على العقيدة ، وإنما انتشر بقوة الفكر على خلاف ما كان في تاريخ انتشار الديانات الأخرى ، ورفض مبدأ الضغط والإكراه في الدين وأبطل كل ما يقوم على هذا المبدأ من عقائد ؛ وشرطه في العقيدة أن تُبنى على القناعة في الفكر والسلوك ، وأما القوّة في أدبياته فهي لدفع العدوان والقضاء على الظلم والفساد ، وإلاّ فهي أعجز من أن تنفذ إلى أعماق الإنسان لتكسبه عقيدة ، والأسلوب الحضاري الذي سلكه الإسلام في جذب الناس إليه يتمثّل في دعوته إليهم بالتي هي أحسن من خلال الكلمة الطيبة التي تفوح بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، وفتح أبواب الحوار الهادئ الموضوعي ، ونبذ اللجاج والعصبية ، وترك الاحتجاج بغير الدليل المقنع . وقد اضطرد هذا الأسلوب في القرآن والسنة كما نلحظه بوفرة في احتجاجات أهل البيت عليهم السلام مع المشركين ، والثنوية ، والدهرية ، والزنادقة ، وأهل الكتاب ، والصابئة ، وغيرهم من أصحاب الديانات والملل الأخرى.
ومن منهج الإسلام إنه هيّأ مستلزمات الدخول إلى الإيمان، وبسطها بوضوح، وجعلها في متناول الجميع ثمّ ترك الناس وشأنهم في حرية الاختيار ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) ، وهذه هي سنّة الله تعالى في عباده ، إذ لم يشأ أن يخلق الإيمان فيهم خَلقاً كما خلق أجسادهم وركّب صورهم…….




